خصوصية النبوة- حروب الأنبياء والإبادة الجماعية في سياق العصر الحديث

المؤلف: بشرى فيصل السباعي10.12.2025
خصوصية النبوة- حروب الأنبياء والإبادة الجماعية في سياق العصر الحديث

لقد اختص الله الأنبياء بالوحي، جاعلاً إياهم قنوات مباشرة لتنفيذ مشيئته المقدسة، وقد تجلت هذه المشيئة في صور متنوعة، منها العذاب الشامل والإبادة التي حلت ببعض المجتمعات نتيجة الكوارث الطبيعية، وأيضاً عبر الحروب التي خاضها الأنبياء، مستندين إلى توجيه إلهي مباشر، كما في قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ)، وهي آية تشدد على هذا الاختصاص النبوي، وقوله أيضاً: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء) {الحشر/‏‏6}، و(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ) {التوبة/‏‏14}. بناءً على هذه النصوص، يرى بعض العلماء، مثل الفقيه الباكستاني «جاويد غامدي»، أنه لا يجوز اعتبار حروب الأنبياء سنة عامة يمكن الاقتداء بها، بل هي أحكام خاصة بالأنبياء أنفسهم، وهذا التفسير يزيل الكثير من الإشكالات والجدالات الدائرة حول مدى جواز الاقتداء بأفعال الأنبياء في الحروب، ففي زمن النبوة، على سبيل المثال، كان يتم استرقاق النساء والذراري من الطرف المهزوم، إلا أن هذا الحكم لم يرد ذكره في القرآن الكريم، على الرغم من التفصيل الواسع لأحكام الحرب فيه، مما يشير إلى أنه قد يكون من خصوصيات النبوة وليس حكماً عاماً. هذا المنظور، الذي يولي اهتماماً كبيراً بالأسباب والظروف الواقعية للأحكام الشرعية، يسهم في حل العديد من المعضلات الفقهية والقضايا المثيرة للجدل، وهذا الأمر ليس حكراً على الإسلام وحده، ففي سياقات أخرى، نجد رئيس الوزراء الإسرائيلي يستشهد بآيات من التوراة تتحدث عن إبادة بني إسرائيل لأقوام معينة، لتبرير الإبادة التي يرتكبها بحق الفلسطينيين في حربه على غزة، إلا أن الحقيقة هي أن تلك القصص التوراتية هي أيضاً محصورة في سياق النبوة، ولا يجوز الاقتداء بها بشكل مطلق، فالاقتداء بها سيؤدي حتماً إلى جرائم إبادة جماعية كما نشهد في غزة. الإبادة التي وقعت في أزمنة الأنبياء كانت بأمر إلهي مباشر ومستحقة، ولا يجوز تطبيقها من قبل من لم يُوحَ إليهم. في المقابل، نجد أن القوانين الإنسانية الحديثة تجرّم الإبادة الجماعية بشكل قاطع، وقد أدانت محكمة العدل الدولية رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه بتهمة ارتكابها جرائم إبادة جماعية بحق سكان غزة، وهذا مثال صارخ على مدى خطورة الفهم السطحي للنصوص الدينية، وعدم تحليلها بشكل موضوعي وعقلاني يراعي اختلاف الزمان والمكان والظروف المحيطة. ومن اللافت أن معظم الذين برزوا في إعمال التفكير العقلاني والموضوعي في النصوص الدينية هم من خارج المؤسسة الدينية التقليدية، وهو ما منحهم مساحة من الحرية في التفكر والتدبر والتأويل، إلا أن تأثيرهم ظل محدوداً في السياق الديني العام، بسبب معارضة مشايخ الدين لهم كونهم من خارج المؤسسة الدينية، إلا أن الإسلام في أمس الحاجة إلى مفكرين عقلانيين أكثر من أي وقت مضى، لصياغة خطاب ديني جديد يواكب العصر ومتطلباته المتغيرة، في مقابل الخطاب الديني التقليدي الذي يصر على آراء صاغتها ظروف تاريخية معينة ولم تعد تتناسب مع الواقع المعاصر، وهذا ما يفسر نفور الكثير من المسلمين وغيرهم عن الإسلام، لأنهم لا يفرقون بين جوهر الدين وبين الخطاب الديني الذي صاغه البشر، والذي غالباً ما يتعارض مع الواقع المعاصر. ليس من الضروري أن يكون المفكر المجتهد في المجال الديني متخصصاً أكاديمياً في العلوم الدينية، فالأصل أن الدين للجميع، ولا يوجد كهنوت في الإسلام، والعلوم الدينية يمكن اكتسابها كثقافة عامة بشكل لا يقل أهمية عن اكتسابها من التعليم الأكاديمي، والمفكر غير المتخصص أكاديمياً في العلوم الدينية قد يكون أكثر تحرراً من القيود التي يفرضها الخطاب التقليدي للمؤسسة الدينية، مما يمكنه من الاجتهاد في إعمال الفكر العقلاني والواقعي والمعاصر في القضايا الدينية، وبالتالي المساهمة في تجديد الخطاب الديني ليواكب متطلبات العصر الراهن، ولكن، للأسف، نجد أن هناك من يهاجم المفكرين في المجال الديني دون حتى أن يكلفوا أنفسهم عناء مناقشة أفكارهم، وهو ما يدل على وجود احتكار للمجال الديني من قبل فئة معينة، بينما الأصل، كما ورد في القرآن الكريم، أن كل مسلم مأمور بإعمال فكره في الدين حتى يفهم ما يؤمن به.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة